بعض عقوبات المعاصي
فاستحضر بعض العقوبات التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الذنوب وجوز وصول بعضها إليك واجعل ذلك داعيا للنفس إلى هجرانها ، وأنا أسوق إليك منها طرفا يكفي العاقل مع التصديق ببعضه .
الختم على القلب
فمنها : الختم على القلوب والأسماع ، والغشاوة على الأبصار ، والأقفال على القلوب ، وجعل الأكنة عليها والرين عليها والطبع وتقليب الأفئدة والأبصار ، والحيلولة بين المرء وقلبه ، وإغفال القلب عن ذكر الرب ، وإنساء الإنسان نفسه ، وترك إرادة الله تطهير القلب ، وجعل الصدر ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ، وصرف القلوب عن الحق ، وزيادتها مرضا على مرضها ، وإركاسها وإنكاسها بحيث تبقى منكوسة ، كما ذكر الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال : القلوب أربعة : فقلب أجرد فيه سراج يزهر : فذلك قلب المؤمن ، وقلب أغلف : فذلك قلب الكافر ، وقلب منكوس : فذلك قلب المنافق ، وقلب تمده مادتان : مادة إيمان ومادة نفاق ، وهو لما غلب عليه منهما .
ومنها : التثبيط عن الطاعة ، والإقعاد عنها .
ومنها : جعل القلب أصم لا يسمع الحق ، أبكم لا ينطق به ، أعمى لا يراه ، فتصير النسبة بين القلب وبين الحق الذي لا ينفعه غيره ، كالنسبة بين أذن الأصم والأصوات ، وعين الأعمى والألوان ، ولسان الأخرس والكلام ، وبهذا يعلم أن العمى والصمم والبكم للقلب بالذات : الحقيقة ، وللجوارح بالعرض والتبعية فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ سورة الحج : 46 ] .
[ ص: 118 ] وليس المراد نفي العمى الحسي عن البصر ، كيف وقد قال تعالى : ليس على الأعمى حرج [ سورة النور : 61 ] .
وقال : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ سورة عبس : 1 - 2 ] .
وإنما المراد العمى التام في الحقيقة : عمى القلب ، حتى إن عمى البصر بالنسبة إليه كلا عمى ، حتى إنه يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ليس الشديد بالصرعة ، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ونظائره كثيرة .
والمقصود أن من عقوبات المعاصي جعل القلب أعمى أصم أبكم .
خسف القلب
ومنها : الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه ، فيخسف به إلى أسفل السافلين وصاحبه لا يشعر ، وعلامة الخسف به أنه لا يزال جوالا حول السفليات والقاذورات والرذائل ، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالا حول العرش .
ومنها : البعد عن البر والخير ومعالي الأمور والأعمال والأقوال والأخلاق .
قال بعض السلف : إن هذه القلوب جوالة ، فمنها ما يجول حول العرش ، ومنها ما يجول حول الحش .
مسخ القلب
ومنها : مسخ القلب ، فيمسخ كما تمسخ الصورة ، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته ، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به ، ومنها ما يمسخ على قلب كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك ، وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم [ سورة الأنعام : 38 ] .
قال : منهم من يكون على أخلاق السباع العادية ، ومنهم من يكون على أخلاق [ ص: 119 ] الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير ، ومنهم من يتطوس في ثيابه كما يتطوس الطاووس في ريشه ، ومنهم من يكون بليدا كالحمار ، ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك ، ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام ، ومنهم الحقود كالجمل ، ومنهم الذي هو خير كله كالغنم ، ومنهم أشباه الثعالب التي تروغ كروغانها ، وقد شبه الله تعالى أهل الجحيم والغي بالحمر تارة ، وبالكلب تارة ، وبالأنعام تارة ، وتقوى هذه المشابهة باطنا حتى تظهر في الصورة الظاهرة ظهورا خفيا ، يراه المتفرسون ، وتظهر في الأعمال ظهورا يراه كل أحد ، ولا يزال يقوى حتى تستشنع الصورة ، فتنقلب له الصورة بإذن الله ، وهو المسخ التام ، فيقلب الله سبحانه وتعالى الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان ، كما فعل باليهود وأشباههم ، ويفعل بقوم من هذه الأمة يمسخهم قردة وخنازير .
فسبحان الله ! كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر ؟ وقلب ممسوخ وقلب مخسوف به ؟ وكم من مفتون بثناء الناس عليه ومغرور بستر الله عليه ؟ ومستدرج بنعم الله عليه ؟ وكل هذه عقوبات وإهانات ويظن الجاهل أنها كرامة .
ومنها : مكر الله بالماكر ، ومخادعته للمخادع ، واستهزاؤه بالمستهزئ ، وإزاغته للقلب الزائغ عن الحق .
نكس القلب
ومنها : نكس القلب حتى يرى الباطل حقا والحق باطلا ، والمعروف منكرا والمنكر معروفا ، ويفسد ويرى أنه يصلح ، ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعو إليها ، ويشتري الضلالة بالهدى ، وهو يرى أنه على الهدى ، ويتبع هواه وهو يزعم أنه مطيع لمولاه ؟ وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلب .
حجب القلب عن الرب
ومنها : حجاب القلب عن الرب في الدنيا ، والحجاب الأكبر يوم القيامة ، كما قال تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ سورة المطففين : 14 - 15 ] .
فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم ، فيصلوا إليها فيروا ما يصلحها ويزكيها ، وما يفسدها ويشقيها ، وأن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم ، فتصل القلوب إليه فتفوز بقربه وكرامته ، وتقر به عينا وتطيب به نفسا ، بل كانت الذنوب حجابا بينهم وبين ربهم وخالقهم .
[ ص: 120 ] ومنها : المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ ، والعذاب في الآخرة ، قال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [ سورة طه : 124 ] .
وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك ، والآية تتناول ما هو أعم منه ، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات ، فإن عمومها من حيث المعنى ، فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره ، فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه ، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم ، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب ، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه ، وإنما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة ، وإن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر ، فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر ، فإنه يفيق صاحبه ويصحو ، وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا كان صاحبه في عسكر الأموات ، فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في دنياه وفي البرزخ ويوم معاده ، ولا تقر العين ، ولا يهدأ القلب ، ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق ، وكل معبود سواه باطل ، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ، والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن به وعمل صالحا ، كما قال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ سورة النحل : 97 ] .
فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة ، والحسنى يوم القيامة ، فلهم أطيب الحياتين ، فهم أحياء في الدارين .
ونظير هذا قوله تعالى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين [ سورة النحل : 30 ] .
ونظيرها قوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله [ سورة هود : 3 ] .
[ ص: 121 ] ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين ، فإن طيب النفس ، وسرور القلب ، وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته من ترك الشهوات المحرمة ، والشبهات الباطلة - هو النعيم على الحقيقة ، ولا نسبة لنعيم البدن إليه .
فقد كان يقول بعض من ذاق هذه اللذة : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .
وقال آخر : إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ، إنهم لفي عيش طيب .
وقال آخر : إن في الدنيا جنة هي في الدنيا كالجنة في الآخرة ، فمن دخلها دخل تلك الجنة ، ومن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الجنة بقوله : إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ، قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر وقال : ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة .